New article from Shaykh Ḥussayn bin Maḥmūd: "Satisfactory Words on the Iraqi Conquests"

بسم الله الرحمن الرحيم

ما حدث في الأيام القليلة الماضية ليس معجزة عسكرية لا يمكن تفسيرها وفق النظرية القتالية ، ولا مؤامرة كبرى لأمريكا وإيران والرافضة والنصيرية والصهيونية العالمية كما يحلو للبعض الدندنة حولها ، وإنما هي نتيجة منطقية لعملية عسكرية خاطفة قام بها جنود يقاتلون عن عقيدة راسخة ضد أفراد عصابات اعتادت التطفل على موائد الحرام بالسلب والنهب فكان همها العيش الرغيد بغض النظر عن مصدره ..

العملية الخاطفة كانت نتاج استعدادات كبيرة وتخطيط طويل وجهد جهيد بذله المجاهدون عسكرياً وسياسياً وتربوياً وتنظيمياً أتى أكله فيما شاهده العالم من فتح للمدن والمحافظات العراقية الواحدة تلو الأخرى .. لقد استطاع المجاهدون الوصول إلى العشائر العراقية المسلمة في هذه الأماكن واقناعهم بضرورة التخلص من الإحتلال الرافضي ، واستطاعوا استكمال العدة والعتاد لهذه المعركة ، واستطاعوا شحن قواتهم معنوياً للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، واستطاعوا تنظيم صفوفهم بحرفية عالية واعداد خطة محكمة أبهرت العالم ..

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن : إن كانت “الدولة الإسلامية” مخترقة على مستوى القيادة فلماذا لم تصل معلومات الحملة العسكرية للروافض في بغداد !! كيف استطاع المجاهدون أخذ الروافض على حين غرّة وقتل أعداد كبيرة من أفرادهم وقادتهم والزحف نحو بغداد إن كانوا مخترقين على جميع المستويات !! سؤال يطرح نفسه ..

الملفت للنظر أن جميع القنوات العربية حاولت بكل ما أوتيت من مكر وخبث صرف وجهها عن هذه الفتوحات ، وكل القنوات تحاول إشغال متابعيها بأي شيء غير “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في هذه اللحظات ، وقد رأينا “قناة الجزيرة” مثلاً تركّز أكثر وقتها على “كأس العالم” وعلى مؤتمرات يعقدها الأمريكان هنا وهناك ، والغريب هو التكرار الغير معهود لهذه المواد في وقت تمثّل العملية العسكرية في العراق كنزاً إعلامياً لأي قناة جادّة !!

قرأت الكثير من التحليلات “المنطقية” و”العقلانية” عن مؤامرة كبرى تقودها حكومة المالكي مع “داعش” لكسر شوكة “الثورة العراقية” التي تدعمها “الدولة الإسلامية” وتقودها ، وقرأت أن “بشّار النعجة” يدعم “داعش” ضد حكومة بغداد التي تدعمه ضد “الدولة الإسلامية” في سوريا !! وقرأت عن مؤامرة إيرانية “داعشيّة” للنيل من أهل السنّة في العراق الذين على رأسهم “الدولة الإسلامية” ، وقرأت عن مؤامرة أمريكية “داعشية” لإسقاط حكومة المالكي الأمريكية ، وقرأت عن مؤامرة “خليجية” “داعشية” لإسقاط حكومة المالكي الرافضية التي تعادي حكومات الخليج التي تموّلها بالمال والمعلومات لاستئصال “داعش” الإرهابية !! هذه كلها تحليلات منطقية عقلانية رزينة تحكي تخبّط العدو وصدمته الكبيرة بسبب هذه العملية الخاطفة ..

المشكلة أننا كمسلمين نغفل عن حقائق النفس البشرية وعن دقائق وصف القرآن للمشاهد التأريخية فأصبحنا ننظر إلى المواقف نظرة ماديّة بحتة لا تجعل في حسابها العامل النفسي الذي هو أعظم المعطيات في الحرب ..

لننظر إلى هذا المشهد المنطقي العقلاني في القرآن ، ولنقارنه بواقعنا المعاصر ، قال تعالى : {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة : 21-24) ..

إن القرار المنطقي المرتكز على النظرة المادية المدروسة دراسة عقلانية هو قرار قوم موسى بعدم دخول الأرض المقدّسة للتباين الكبير في القوة العسكرية بين الفريقين ، وهذا التباين وهذا الخوف نتج منه إحجام شديد ثم قلة أدب وتطاول على رسول الله موسى عليه السلام ، أما القرار الغير منطقي والغير عقلاني والغير مبني على الحسابات الأرضية فكان للرجلين اللذان قالا {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} !! بأي منطق وأي علم يتحدث هذان الرجلان !! كيف تدخل على العمالقة الجبابرة الذين لا قبل لأحد في الأرض بهم ، والذين وقف فرعون ذاته على حدودهم لا يجرؤ تجاوزها لشدّة بطشهم !! إنّه منطق اللاعقلانية في نظر كثير من الناس .. إنّه منطق العاطفة المفرطة .. إنه منطق اللامنطق !!

إنه – يا سادة – منطق التوكّل على الله .. إنّه منطق العقيدة الراسخة .. إنه منطق الإرادة الجادّة .. إنه منطق العزيمة الأكيدة .. إنه منطق {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .. إنه منطق اليقين الذي لا يساوره شك .. منطق التسليم المطلق لأمر الله .. منطق التصديق الكامل بوعد الله ..

هناك منطقان : منطقٌ إبليسي شيطاني يُنسي صاحبه قدرة الله وعظمته {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 175) ، ومنطق قرآني رباني يعتمد كلياً على قاعدة التوكّل على الله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران : 173) وهذا المنطق مآله {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران : 174) ومآل المنطق الأوّل خزي في الحياة والدنيا وعذاب أليم في الآخرة ..

إن الذي يحسبه البعض منطقاً وعقلانيّة ورشَداً ونضجاً وسياسةً وذكاءً وحنكة وخبرة ودراية يكون في كثير من الأحيان عبثاً فكرياً لا يمت للواقع الكوني بصلة ، فضلاً عن الحقيقة الشرعية ، فحساب القوة المادية في الحرب وإغفال الجانب النفسي خطأ فادح في حسابات الحروب ، والإعتماد على الجانب التنظيمي والإعدادي وإغفال الجانب الروحي كارثة عسكرية ، والإعتماد الكلي على العتاد وإهمال الجانب الإيماني العقدي الذي هو أصل النصر وسببه الأوّل والأعظم أمر لا يمكن تبريره لدى المسلمين .. لا بد من التوازن في المنطق العقائدي والعملي ، والإعتماد الكلي على الحقيقة الشرعية لكسب المعركة ضد الكفر ..

ليس غريباً أن ينهزم الرافضة وتنهزم جيوش المالكي أمام الزحف الإسلامي ، فالفرق كبير بين العقيدة المتأصلة المتجذّرة في نفوس المجاهدين وبين هؤلاء المرتزقة .. إن الذي يحب الحياة ويتوق لها لا بد أن يهرب من المعركة ، أما الذين يتسابقون إلى الموت ويرونه كرامة وشهادة في سبيل الله لا يمكن أن يقف أمامهم محبي الحياة ، فقوم موسى – عليه السلام – كرهوا الحياة فتاهوا في الأرض ، وأتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – طلبوا الموت فوُهبت لهم الحياء وملكوا الأرض ، وأسألوا الروس والأمريكان عن عشاق الموت .. عُشّاق الموت هم صُنّاع الحياة ..

كتبت في مقالة سابقة بعنوان “وسقطت الدولة” (في 5 ربيع الثاني 1435هـ) هذه العبارة : ” لعل البعض لا يدري بأن حدود الدولة اليوم أكبر من ست دول عربية مجتمعة ، وأن جيشها أقوى من أكثر الجيوش العربية ، وأن قادتها عندهم من الإستقلال ما ليس عند جميع حكام الدول العربية ، ولو أن الغرب خرج من المعادلة فإن هذه الدولة تستطيع – بإذن الله – أن تلتهم أكثر الدول العربية في بضعة أشهر” (انتهى) ولا زلت أقول هذا الكلام لعلمي بالتباين العقدي بين جنود الدولة وجيوش الدول العربية التي لا تستطيع الصمود إلا بمدد من الصليبيين واليهود ..

لننظر إلبى هذه السورة العجيبة في القرآن ، سورة نقف أمامها حيارى ، ونحاول جهدنا استخلاص بعض حكمها بعقولنا القاصرة ، وهيهات أن نصل إلى جوهرها ومكنون حكمتها ، قال تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} (النصر : 1-2) فالمنطق البسيط يقول أن بعد النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً : فرح وسرور واحتفال وفخر واعتزاز ، ولكن الأمر الإلهي جاء مخالفاً لهذا المنطق المزعوم :{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر: 3) ما دخل التسبيح والإستغفار والتوبة : بالنصر والفتح !!

بحثت في كتب التفسير فلم أجد أحسن من كلام الإمام “سيّد قطب” رحمه الله في تفسير هذه الآيات القليلة المبنى ، الغزيرة المعنى ، وبيان بعض حكمتها وجمالها وتعمّقها في حقيقة النفس البشرية ، وأنا أنصح جميع المجاهدين بقراءة هذه الكلمات وإدراك مدلولاتها السامية التي تكشف أسرار القلب البشري وتستدرك عليه بعض نبضاته ، قال سيد قطب رحمه الله :

“في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر .. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : {إذا جاء نصر الله . . .} .. فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لأشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء .. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا ..

وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إنّ شأنه – ومن معه – هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم مِن منّة بأن جعلهم أمناء على دعوته حرّاسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .

والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سَكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب تَوقّيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .

والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر .. من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة : 214) ، فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان .. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم : 34) .. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .

وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار .. ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور ..
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلّطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصّر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .

إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه ، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحاً من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ; وعملٌ لعمارة الأرض وترقيَة الحياة ; وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، .. الإتجاه فيها إلى الله .
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما ..
كان هذا هو أدب يوسف – عليه السلام – في اللحظة التي تم له فيها كل شيء ، وتحققت رؤياه : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف : 100) ..

وفي هذه اللحظة نزع يوسف – عليه السلام – نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام : {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف : 101) … وهنا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان ، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه : {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل : 40) ..

وهذا كان أدب محمد [صلى الله عليه وسلم] في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له .. انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة .. فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبّح وحمد واستغفر كما لقّنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده ، رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق .” (في ظلال القرآن) ..

لقد كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المعارك من هذا القبيل ، فلم يكن النصر من عنده أو من عند جنده ولا عدته ولا عتاده ، بل كان كل هذا منسوباً لله وحده ، ففي الصحيحين من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في القتال “اللهم مُنزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم” ، وعند الترمذي “اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أُقاتل” (قال الترمذي : حديث حسن) ، وعند ابن السنّي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر “لا تتمنوا لقاء العدو ، فإنكم لا تدرون ما تُبتَلو به منهم ، فإذا لقيتموهم فقولوا : اللهم أنت ربنا ، وقولبنا وقلوبهم بيدك ، وإنما يغلبهم أنت” (والحديث له شاهد) ..

لقد أحسن الشيخ العدناني – حفظه الله – أن ذكّر جنود “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بعدم الإغترار بالنصر ، وأن يتواضعوا ، وأن يتوكلوا على الله ولا يركنوا للدنيا ولا للغنائم ولا لعدة ولا عتاد ، وأن يطأطؤوا الرؤوس ، ويرحموا المسلمين ، فكلامه وكلام “سيّد قطب” رحمه الله خرج من مشكاة واحدة ، فليحمد الله على هذه النعمة ، وأنصحه أن يكون لإخوانه في الشام من كلامه هذا نصيب ، وأنّه آن الأوان لكي يلتحم المجاهدون ويقفوا صفاً واحداً في وجه الكفر والطغيان ، وليكن الذي يبدأ بالسلام ، فخيرهما الذي يبدأ بالسلام ..

كما أنصح قادة الجهاد بالمضي قدماً في خطهم العسكرية ، وأن لا ينجروا لمناوشات جانبية ، وأن لا يَسْتعدوا من لا يقتضي الموقف استعداءه ، وأفضل من قتال بعض المخالفين تحييدهم ، والقتال يكون ضد العدو الظاهر الكافر أو المعتدي الآني ، والعفو والصفح أجمل بالمجاهد من الإنتقام ، والمسلم أخو المسلم ..

إن إطلاق كلمة “عملية عسكرية خاطفة” على هذه الملاحم الكبرى ليس للتقليل من شأنها بقدر ما هو تذكير بأن المعركة في بداياتها ، فوسط العراق وجنوبها وبلاد فارس بيد الرافضة ، وغرب الشام بيد النصيرية ، وفلسطين لازالت مُحتلّة ، ودول الإسلام قاطبة ترزح تحت نيران الظلم والطغيان ..

قد يدخل المجاهدون اليوم الموصل وصلاح الدين وبغداد والرمادي ويخرجوا منها غداً بسبب قصف الطائرات الإيرانية أو الأمريكية أو غيرها ، وهذا ما حصل في أفغانستان ، فالأمر ليس فتحاً بالمعنى المعروف بقدر ما هو استشعار للقدرة والمعيّة الإلهية ، وبقدر ما هو زرع لروح العزة والكرامة في نفوس المسلمين عامة ، وفي المناطق المحررة خاصة ، وبقدر ما هو تذكير من الله للمسلمين بقدرته وعظمته إن دخلوا على الأعداء الباب وأقاموا راية الجهاد ، فهذا ليس نصر من الدولة الإسلامية ، بل هو نصر من عند الله وحده ..

قد يستطيع المجاهدون الحفاظ على المناطق المحررة إن أحسنوا إدارة المرحلة بأن يتصالحوا مع العشائر وأهل هذه المناطق ، وأن يجعلوا الإدارة لهم ومنهم كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ينشروا بينهم العقيدة الصحيحة والعزة والأنفة الإسلامية ، وأن لا ينشغل المجاهدون بإدارة هذه المناطق عن الزحف نحو الولايات الأخرى ، مع ترك حامية لكل منطقة يفتحونها تضمن سلامة إدارتها وأمنها ..

لا بد من زرع القيم الإسلامية في نفوس أبناء المسلمين ، وتذوّق العزّة واستشعار الكرامة الإنسانية من أعظم قيم الشعوب الحرّة ، ولذلك جعل الله تعالى رسالته العالمية الخاتمة في جزيرة العرب ، فأهلها لم يخضعوا لملك ولا حاكم ، وكان كل واحد فيهم دولة في ذاته ، وكانوا يبذلون دمائهم وجميع ما يملكون في لحظة مقابل كرامتهم ، فلم يكونوا كبني إسرائيل الذين استعبدهم فرعون في عهد موسى ، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين كانوا تحت حكم الرومان في عهد عيسى ، ولم يكونوا كقوم إبراهيم في عهد الطاغية نمرود ، بل كانوا في صحراء جرداء لا ينازعهم فيها ملك ، وقريش ذاتها لم يكن لها حاكم منفرد ، بل كان حكمها شورى في دار الندوة ، فهذه الحريّة وهذه الأنفة وهذه العزّة مع صفاء الفطرة والبعد عن الفلسفات الشرقية والغربية كانت من أعظم مؤهلات العرب لقيادة البشرية ، فلم يدخل في قلوب المسلمين الأوائل غير القرآن وتعاليم الإسلام السامية ، مع تنظيم وتوجيه معاني العزة والأنفة والقوة والحريّة ، فكانوا بحق خير قرن في تاريخ البشرية ..

إن هذه الفتوحات العراقية تُفرح كل مؤمن ، وتُغيظ كل منافق ، وقد فرح المسلمون بنصر الروم على الفرس لكونهم أهل كتاب ، والفرس مجوس ، وأهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس ، واليوم نرى البعض يحزن لانتصار المجاهدين على الرافضة ، مع أنهم يدّعون أنهم من أهل السنّة ، فما أقبح أن يكون من يدعي الإسلام بهذه السطحية ، وبهذا الغباء ، وما أشبه هؤلاء بالمنافقين الذين قال الله فيهم {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران : 120) ، فمن ساءته انتصارات المجاهدين فهو مريض القلب مصاب بلوثة نفاق والعياذ بالله ، فعليه مراجعة قلبه قبل عقله ..

ينبغي أن لا يعكّر صفو الفرح بهذه الإنتصارات شيء من الجدال الذي يحاول المندسون إحياءه ليصرفوا المسلمين عن واقعهم .. لا بد أن يشتغل الجميع بالدعاء للمجاهدين بالنصر والتمكين ، والدعوة إلى وحدة الصف ، وأن يتكاتفوا ويتعاضدوا لنصرة المسلمين في كل مكان ، فهذه الأيام من أيام الله تعالى ، والله تعالى أمرنا بتسبيحه وكثرة الإستغار له والتوبة والإنابة إليه ، فالله الله في أمر الله لا يشغلنا الأعداء عنه ، إنها أوقات ذلة وانكسار بين يدي الله تعالى ، وأولى الناس بهذا : المجاهدون ..

نسأل الله أن ينصر المجاهدين ، ويجمع كلمتهم ، ويوحد صفوفهم ، ويمكّنهم من رقاب عدوهم ، ويفتح لهم مع البلاد قلوب العباد ، وأن يحفظهم بحفظه ، وأن يتقبّل قتلاهم في الشهداء ، وأن يفرّج عن أسراهم ، ويشفي جرحاهم ، ونسأله بقوته وقدرته أن يرينا في أعداء الدين عجائب قدرته ، وجلالة عظمته ، إنه القوي العزيز القاهر المتكبّر سبحانه ..

والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

كتبه
حسين بن محمود
13 شعبان 1435هـ

___________

To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]