New article from Shaykh Ḥussayn bin Maḥmūd: "Politics For Beginners"

بسم الله الرحمن الرحيم

ما هي السياسة ؟ سؤال قديم قدم ظهور المصطلح ، وقد بحث العلماء والفلاسفة في معنى هذه الكلمة وأطالوا النفس ، ولسنا بصدد خطاب فلسفي ، ولكن المراد هنا فهم الواقع المندرج تحت هذا المُسمّى بطريقة أو بأخرى ..

مادة السياسة في اللغة العربية من “السَّوْس” بمعنى الرياسة ، وساس السلطان الرعية أي تولّى أمرها ودبّرها وأحسن النظر إليها ، وساسَ الأمر سياسة إذا قام به ، وسَوَّسه القوم إذا جعلوه يَسوسهم ، ويقال : سُوِّس فلان أمر بني فلان أي كُلِّف بسياستهم ، وفي الحديث “كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبيائهم” [لم أجده بهذا اللفظ] ، فالسياسة : “القيام على الشيء بما يُصلحه” (انظر لسان العرب لابن منظور) ..

لا يبتعد التعريف اللغوي للسياسة عن التعريف المعاصر لها ، فالجامعات العالمية والنظريات الحديثة تعرّف السياسة بأنها “فن إدارة الشؤون العامة” ، وقد ربطه البعض بالقوة والبعض بالإقتصاد والبعض بالتفاعل الإنساني ، أما في الشريعة الإسلامية فالسياسة هي “تدبير شؤون الراعي والرعية بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية” ، أو كما قال ابن خلدون – رحمه الله – في تعريف الخلافة : “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة : خلافة صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا” (المقدمة) ، فهذا التعريف الجامع للسياسة (أو الخلافة) من أفضل ما كتب العلماء ، وصاحب الشرع هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ..

لو نظرنا إلى عالمنا اليوم نجد أن مفهوم السياسة غائب عن أكثر حكومات الأرض ، وهو أشد غياباً في الدول العربية ، فالحكومات في أكثر دول الأرض نخر فيها الفساد الإداري ، وطغت المصلحة الشخصية فيها على المصلحة العامة ، فلا تجد حكومة تراعي مصالح مواطنيها إلا ما ندر ، وأكثر الحكومات لها مصالح شخصية تقدمها على المصالح العامة ..

نستطيع أن نعرّف السياسة في واقعنا المعاصر بأنها “فن إدارة المصالح الشخصية” ، وهذه المصالح الشخصية في الغالب تُدار بالنظرية الميكافيلية “الغاية تبرر الوسيلة” ، ومن الغريب أن ميكافيلي في كتابه “الأمير” يصف ما ينبغي على الحاكم أن يعمله من استغلالٍ للدين وللقوة وللتنصل من مكارم الأخلاق وللتصنّع الكاذب وكأنه يصف حال حكامنا في هذا الزمان ، فكتابه جدير بالدراسة لأنه يُطلعنا على حقيقة السياسيين الذي طبقوا نظرياته حرفياً ، بل زادوا عليه الكثير : كمحاربة الدين بدل إظهار التديّن ، ومحاربة الفضائل بدل إظهار الفضيلة ، وغيرها من الأمور ..

هذه بعض النقاط التي تساعد المبتدئين على فهم ما يدور حولهم اليوم من سياسات متقلبة كالريشة يتلاعب بها الريح في أرض فلاة ، ونقصد بها السياسيين الذين ليست لهم مبادئ ثابتة ، وهم الأكثرية اليوم ، فكل موقف سياسي يعرض للمرء يستطيع إنزاله على قاعدة من القواعد المذكورة أدناه ليعرف حقيقته إن شاء الله ، وهذه القواعد جاءت بعد بحث وتتبع واستقراء للمنظومة السياسية المحلية والعاليمة :

1- لا ينبغي الإلتفات أبداً لما يقوله السياسيون ، فالسياسة عند الكثير هو “فن الكذب” ، فكلام السياسي لا وزن له ، ولا بد من التركيز على العمل ، وليس العمل الواحد ، بل العمل المتسلسل التاريخي للسياسي ، فالسياسي دائماً يحاول إقناع الناس بأنه صاحب مبادئ ، ولا ينكشف أمره إلا إذا وقعت حوادث كبيرة تتطلب مواقف صريحة ، وسرعان ما يبدّل السياسي مبادئه ، بل حتى دينه ، والكذب حبله قصير ..

2- العلاقة بين الحكومات هي علاقة مصالح متبادلة ، وليست علاقات أيديولوجية كما بين الشعوب .. قد تكون المصلحة مع هذه الدولة اليوم فتكون صديقة وجارة ، ثم تكون المصلحة مع دولة أخرى ، أو تتضارب المصالح ، فتُصبح ذات الدولة : عدوّة أو غير صديقة في لمح البصر ، ثم قد ترجع العلاقات طبيعية بعد فترة ، وهذا التغيير في المواقف يحدث سريعاً بين الحكومات ، وهو بطيء نوعاً ما بين الشعوب ..

3- الفساد ينخر في أكثر حكومات الأرض ، وخاصة الدول العربية ، وكثير من الناس لا يتصور حجم هذا الفساد وإن رآه بالأرقام ، ففي الدراسة التي أعدها كل من شهرزاد رحمان وحسين عسكري من جامعة جورج واشنطن الأمريكية (بتاريخ 2010) ذكرا أن مجموع السكان في الستة وخمسين دولة التي تمثل الأمة الإسلامية هو مليار ونصف (قرابة ال 22% من تعداد السكان في الأرض) ، وهذا العدد يُنتج (6%) فقط من الإنتاج العالمي ، ويصدّر (9%) فقط من الصادرات العالمية ، ومعدل دخل الفرد في الأمة الإسلامية هو (3,600) دولار في السنة ، بينما المعدل العالمي هو (5,600) دولار .. دخل الأمة الإسلامية مجتمعة (3.2) تريليون دولار ، بينما دخل أمريكا السنوي (13.9) تريليون دولار ، أي أن دخل الأمة الإسلامية يساوي (23%) فقط من دخل أمريكا وحدها ، ليست هذه المفاجئة !! المفاجئة أن رجلاً واحداً من الأمة أورث أبناءه أكثر من تريليونيّ دولار (التريليون يساوي ألف مليار ، والمليار يساوي ألف مليون ، والمليون يساوي ألف ألف) ، هذا يعني أن هذا الرجل كان عنده ما يقارب ال (63%) من دخل الأمة الإسلامية مجتمعة ، وهذا الشخص لم يكن ملكاً ، بل كان وزير دفاع ثم ولي عهد !!

4- أكثر السياسيين يركبون الأمواج الشعبية ، بمعنى أنهم ينظرون إلى الشعوب : فإن كان الشعب في موجة تديّن تراهم متدينين ، وإن كان الشعب ليبرالياً يُظهرون الليبرالية ، وفي الغالب يتبع السياسيون من يظنون أنهم الأغلبية أو أنهم أصحاب النفوذ والقوة ، وهذا رأيناه واضحاً جلياً في مصر ما قبل الثورة وأثنائها وبعد الإنقلاب ، فالغالب أن السياسي لا دين له ، فدينه مصلحته ..

5- أعدى أعداء الدولة الظالمة هو الشعب المتعلّم المثقّف ، وأعدى أعداء الدولة العادلة هو الشعب الجاهل ، ولذلك تعمل الحكومات الظالمة على تغييب الوعي الشعبي ، بينما تحرص الحكومات العادلة على زيادة الوعي بين شعوبها .. والسبب في ذلك أن الحكومات الظالمة تعتمد على الكذب في سياساتها ، والشعب الجاهل لا يستطيع ربط الأحداث ولا معرفة العلاقة بينها ، مثال ذلك : ادعاء حكومة “آل سعود” بأنها مع أهل السنة في العراق ضد الرافضة ، فمن ربط هذا بإغلاق الحكومة المصرية للقنوات العراقية السنيّة وبيعها السلاح للرافضة علم أن “حكومة الرياض” كاذبة لأنها تستطيع أن تأمر عبدها السيسي بعدم غلق القنوات وبيع الأسلحة ، فمثل هذه الألاعيب لا تنطلي على الشعوب الواعية ..

6- الإعلام اليوم هو أخطر وسيلة لتوجيه الشعوب وفق منظور معيّن ، ولا يوجد على وجه الأرض اليوم إعلام مستقل ، فكل وسيلة إعلام يمتلكها أفراد ، وهؤلاء يوجّهون الرأي العام وفق منظورهم أو مصالحهم أو مصالح غيرهم إن كان هذا الغير يمتلك القوة لإخضاعهم ، وأغلب وسائل الإعلام العالمية يمتلكها يهود ، واليهود يحالون السيطرة على الإعلام في كل الأرض : إما بالشراء أو بالإستحواذ ، ويحاربون كل وسيلة إعلامية صاعدة لا يستطيعون الإستحواذ عليها بالقانون تارة ، وبالتهديد تارة أخرى ، وبالتشويه أحيانا .. قبل بضع عقود كان أكثر أهل الأرض ضحية للإعلام اليهودي ، أما بعد ظهور هذه البرامج الإجتماعية وبعد الشبكة العالمية أصبح الإعلام أكثر تحرراً ، والشعوب أكثر وعيا ..

7- الدول التي خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية هي التي أسست المنظمات الدولية للمحافظة على مصالحها (كمجلس الأمن ، وصندوق النقد الدولي …) .. هذه المنظمات هي أكبر كذبة عرفها التاريخ ، وقد تغلغل اليهود في هذه المنظمات حتى باتوا يسيطرون على أكثرها .. الدول الخمس التي لها حق النقض في مجلس الأمن تتفق فيما بينها على إصدار بعض القوانين التي ينقضها أحدهم ليُظهروا للناس أن المنظمة غير مسيّسة ، ولتظهر بعض الدول بمظهر المدافع عن حقوق الغير ، فالأمر كله لا يعدو تبادل أدوار وتلاعب بمصائر الشعوب .. وصندوق النقد مؤسسة يهودية خالصة تهدف إلى السيطرة على الدول عن طريق الإقراض الربوي ..

8- لا توجد دولة أجنبية تراعي مصالح الدول الإسلامية ، أو تكون منصفة مع المسلمين ، فجميع الدول النصرانية واليهودية والكافرة (سواء كانت علمانية أو بوذية أو هندوسية أو أي دين آخر) معادية للمسلمين ، وهذه الحقيقة يجهلها من لا يتابع الأحداث ولا يعرف القرآن ، فقد قال الله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة : 82) وقال تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} البقرة : 105) ولذلك قال تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة : 29) ، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة : 123) فالمؤمنون مأمورون بقتال جميع الكفار بسبب معاداة هؤلاء الكفار للمسلمين ، وحتى لا يعلو كفر في الأرض ، ويكون العلوّ والغلبة والظهور لدين الله عز وجل ، وأي دعوى للتقريب أو التعايش السلمي بين الأديان مناقض للنصوص الشرعية وللأحداث التاريخية وللحقائق السياسية ..

9- قد تنال دولة من دولة أخرى ، وقد تُظهر دولة عداوة لدولة أخرى في العلن ويكون تعاملها في السر لخداع الشعب الذي قد يكون مخالفاً ومعادياً عقدياً للدولة الأخرى ، ومثال ذلك : إيران وأمريكا ، والدول العربية والصهاينة ، فالعلاقات كانت ولازالت موجودة بين هذه الكيانات وإن كان الظاهر العداء .. الحكومات لا تتعامل مع غيرها وفق المنظور العقدي كما تفعل الشعوب ، بل تحكم علاقاتها المصالح ، فترى التراشق بالألسن ، والبيانات النارية ، والمواقف المعادية ، ثم يكون التعاون والتنسيق والعمل المشترك تحت الطاولة ، وهذه أمور متعارف عليها بين الحكومات ..

10- المال من أعظم القوى السياسية في السياسة المعاصرة ، فالدول تشتري ولاء الأفراد والجماعات والأقلام .. ربما تجد رئيس دولة كبرى للبيع (كما هو حال توني بلير) ، وبعض الدول تشتري مواقف دول أخرى لكسب بعض المواقف السياسية ، فالمحفل السياسي الدولي أشبه ببيت دعارة ، والسياسيون فيه مومسات ، أما شراء الذمم في الدول العربية فهذا أوضح من أن نتكلم عنه ، فالدين والقلم واللسان بأبخس الأثمان .. أكثر الدول عندها جهاز خاص للرشوة وشراء الذمم ، ويكون ذلك عن طريق المال أو الإمتيازات أو المناصب أو النساء أو غيرها من الأمور ، فالسياسي معرّض أكثر من غيره للفتنة حين يزور دولة أخرى أو يُزار ..

11- الدكتاتوريات في الغالب تُصنع محلياً ، فالرئيس في الدول الغير دستورية يحيط به مجموعة كبيرة من المنتفعين الذين احترفوا النفاق ، وهؤلاء ينفخون في الرجل حتى يخيل إليه أنه إله ، فيزينون له الإستئثار بالحكم ، وعدم قبول الرأي الآخر مهما كان ، ويخوفونه من المخلصين ، ويحيطونه بشُرط وعساكر ليمنعوه الإحتكاك بالشعب بحجة هيبة المؤسسة الحاكمة ، فيصبح هذا الرجل المنتخب أو الوارث للحكم – والذي قد تكون نيته الإصلاح في البداية – صنماً يُعبَد ويَستَعبِد الناس ، ولا يستطيع الناس الفكاك منه إلا بقتله والتخلص من جميع من حوله ، وإلا يرجع ، أو يصنع مَن حولَه صنماً آخر غيره ، ولو كان في الناس وعي ، أو كانت الدولة مؤسساتية فإن صناعة الدكتاتور أصعب ما يكون ، ولو علم الحاكم أن الناس تثب إلى السلاح إذا فكّر – مجرد تفكير – في الإستئثار بالرأي فإنه يتعوذ بالله ألف مرّة من الدكتاتورية ، فليس أصلح من السلاح لعلاج جنون العظمة ..

12- “في الغالب : الشعب مع الغالب” ، هذه نظرية سياسية تكاد تكون حقيقة ، فمن عادة الشعوب التطبيل للغالب المنتصر ، خاصة إذا كان الإنتصار عسكرياً ، أما الإنتصار المدني عن طريق الإنتخابات في الدول الدستورية الحديثة التي تحترم قانونها فالأمر يختلف : إذ يبقى المهزوم في خانة المعارضة .. أما الدول التي لا تقيم للقانون وزناً : فالغالب قاهر للمغلوب ، والمغلوب تبع للغالب ، وإذا كان للمغلوب مبدأ أو عقيدة فإنه لا يخضع نفسياً ، ويتحيّن الفرصة للإنقضاض على غريمه ، فتكون الدولة في حالة عدم استقرار يمنعها من التقدم والإزدهار ، وهذا حال أكثر ما يسمى بدول العالم الثالث ..

13- الدول الذكيّة تحاول دائما أن تجعل غيرها يخوض الحرب عنها بالوكالة لتُبقي على قوتها ولتُنهك خصمها ، أو خصومها في بعض الأحيان ، ونحن الآن أمام حالة من هذا القبيل في العراق : فأمريكا تريد لإيران التدخّل في العراق ، وإيران تريد من أمريكا ورافضة العراق القتال في العراق ، والسعودية تريد من أمريكا وإيران التدخّل في العراق ، لأن الكل يعلم بأنه خاسر إذا دخل هذه الحرب بغض النظر عن نتائجها ، فالمجاهدون ليس عندهم ما يخسرونه ، وهذه الدول عندها مصالح كثيرة في أكثر بقاع الأرض ، والتدخّل المباشر في العراق يعني حرباً مفتوحة مع جماعة باتت تملك ترسانة عسكرية كبيرة ، وجيشاً على درجة عالية من الكفاءة ، وجنوداً يحبون الموت ويقتحمون الأهوال بلا تردد ..

14- الدولة الضعيفة كالمرأة ، والدولة القوية كالرجل ، وفي كثير من الأحيان يتحرّش الرجل بالمرأة ، وفي كثير من الأحيان تخضع هذه المرأة للمتحرّش أو تبحث عن رجل أقوى يحميها لتقع فريسة المدافع عنها ، فلا دفاع بلا ثمن .. لا حياة في عالمنا اليوم للدولة الضعيفة ، وهذا من أسرار قول الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ …} (الأنفال : 60) ، فمن أراد أن يكون رجلاً في عالمنا اليوم فعليه أن يكون إرهابياً كبيرا ..

15- الغرب لم يترك الدول العربية التي احتلها في القرن الماضي إلا بشروط ، منها : أن يكون له نصيب من مواردها الطبيعية ، وأن يكون هو من يتحكم في علاقاتها الخارجية ، وأن يكون اختيار أي حاكم بعد موافقته ، فليس هناك ولي عهد دون موافقة الغرب ، وأن لا تقوم للإسلام قائمة في هذه الدول ، وأن تعمل الحكومات على نشر القيم الغربية والإلحاد والرذيلة بين المجتمعات المسلمة ، ومن تتبع أحوال هذه الدول لم يُخطئ هذه الصورة ، فالربيع العربي كان بمثابة خروج عن الطوق ، أما الجهاد فهو الذي ترتعد فرائص الغرب لمجرّد سماع لفظه ..

16- الغرب مغرم بمسألة “صناعة المصطلحات” : فالإسلام هو الإرهاب ، والدفاع عن النفس : إرهاب ، والجماعات الإسلامية : إرهابية ، والحكومات العميلة : صديقة ، والعالم الإسلامي : دول العالم الثالث ، وقلب العالم الإسلامي : الشرق الأوسط ليضموا دولة المسخ اليهودية إليها وليرفعوا عنها صفة الإسلام ، والمجاهدون : قاعدة ، ثم “ISIS” للدولة الإسلامية .. الغرض من هذه المصطلحات هو التفريق والتشتيت وصرف النظر عن الحقيقة ، ولكن في الغالب يرجع هذا المكر وبال على الغرب ذاته : فالإرهاب أصبح فعلاً يُرهب الغرب وأتباعهم ، وهذا لا شك في صالح المسلمين ، والقاعدة أصبحت رمزاً للإرهاب تستقطب باسمها آلاف الشباب المسلم كل سنة ، أما “ISIS” التي ترمز لـ “Islamic State of Iraq and greater Syria” أو “Islamic State of Iraq and Sham” والتي هو “الدولة الإسلامية في العراق والشام” فهذا مصطلح آخر جديد لم ينتبه الغرب – كعادته – لفحواه ، فـ “IS” كما في “قاموس أكسفورد الأمريكي المتقدّم” له عدة معان ، منها : “موجود” ، و”يحدث” ، و”باقٍ” وغيرها من المعاني ، فـ “ISIS” معناها “موجودة موجودة” و”تحدث وتحدث” و”باقية باقية” ، ولو أن الدولة غيّرت اسمها وصار “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا” لكان مختصر ذلك (داعس) يوافق الحقيقة ، فما تركت الدولة عدواً في العراق إلا و”دعست” عليه ..

17- حينما يمرض الحاكم في البلدان العربية – أو يقرب تنحيه لسبب من الأسباب – يبدأ المرشحون لخلافته بمغازلة الغرب عن طريق إثبات القدرة وإظهار النية لمحاربة الإسلام ومظاهر التديّن ، فبقدر عداوة المرشّح للإسلام وبقدر تعمقه في حرب كل مظهر من مظاهر التديّن يكون قربه وتقبله عند الغرب ، فيرى المراقب العجب من أناس يدعون الإسلام ثم يتفانون في حرب كل مظهر من مظاهره لينالوا الحضوة عند أعداء الإسلام فيدعمونهم للجلوس على كرسي الحكم ، فالحاكم العربي يحارب الإسلام في حياته ، ثم يشتد الحرب على الإسلام من قِبل خلفاءه قَبل وفاته !!

هذه السياسة المعوجّة في الأرض ، والتي تفتقر إلى أدنى مقومات العدل ، هي واقعنا المعاصر ، وما كان هذا ليكون لو كانت الأمة الإسلامية هي التي تحكم العالم ، فالعدل لا يكون إلا بهذه الشريعة الربانية التي جعلها الله تعالى خاتمة الشرائع ، فمن رام إصلاح البلاد والعباد بغير شرع الله فإنه واهم وجاهل جهلاً مركباً ، فلا ديمقراطية ولا قوانين دولية ولا إشتراكية ولا علمانية تصلح لسياسة العالم ، فالله هو الذي أنشأ هذا الكون وهو أعلم بما يصلحه {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك : 14) .. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ …} (المؤمنون : 71) ..

لقد ميّز ابن خلدون بنظرته الثاقبة بين السياسة الشرعية وغيرها ، فقال : “إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة ، والسياسي [أي المُلك السياسي] هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار ، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها” (مقدمة ابن خلدون) .. فالملك الطبيعي هو ما يوجد في عالمنا العربي وما يسمى بدول العالم الثالث ، والملك السياسي هو ما يتظاهر الغرب بأنه يطبّقه ولكنه أخطأه لكون القانون بشري غير معصوم مع غياب الرقابة الذاتية ، أما الخلافة فإنها تجعل المصالح الأخروية مهيمنة ومقدَّمة على المصالح الدنيوية ، وتجمع بين القانون الشرعي المعصوم (إلا بالاجتهاد البشري في فهم بعض المتغيرات) ، وبين المراقبة الذاتية للأفراد المرتبطين بالآخرة ، وبين العمل الدنيوي المتقن المفيد للبشرية ، فلا دكتاتورية ولا فساد ولا تخلّف علميّ أو تقني في الخلافة الإسلامية ..
لم يوجب الله تعالى قيام الخلافة الإسلامية لتكون خادمة لمصالح المسلمين فقط ، بل الخلافة رحمة للبشرية ، فلا يمكن تصوّر العيش في حالة استقرار دون قيام هذه الخلافة التي تنشر العدل في الأرض ، وفي الحديث “لَتُمْلَأَنَّ الأرضُ جَوْراً وظلماً ، فإذا مُلِئَتْ جوراً وظلما ، يبعثُ اللهُ رجلًا مني ، اسمُه اسمي ، واسمُ أبيه اسمُ أبي ، فيملؤُها عدلاً وقِسْطاً ، كما مُلِئَتْ جوراً وظلما” (صححه الألباني في صحيح الجامع) ، فمقصد الخلافة أن تملأ الأرضَ عدلاً وقسطاً ، ولا يمكن لأي نظرية بشرية أو دين محرّف أن ينتج هذا العدل وهذا القسط مهما بلغ من العبقرية الموهومة ، فالإسلام وحده ، والخلافة وحدها كفيلة بهذا دون سواها ..


والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

كتبه
حسين بن محمود
22 شعبان 1435هـ

_________

To inquire about a translation for this article for a fee email: [email protected]